روى المقريزى قال
ثم إن المهدي خرج بنفسه يرتاد موضعاً على ساحل البحر يتخذ فيه مدينة، وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد النكاري على دولته، فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهدية، وهي جزيرة متصلة بالبر كهيئة كف متصلة بزند، فبناها، وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً، وأبوابا عظيمة، زنة كل مصراع مائة قنطار.
وكان ابتداء بنائها في يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلما ارتفع السور أمر راميا بالقوس يرمى سهما إلى ناحية المغرب، فرمى بسهم فانتهى موضع المصلى، فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد الخارجي فإنه كان يركب حمارا.
وكان يأمر الصناع بما يعملون، وأمر أن تنقر دار صناعة في الجبل تسع مائة شينى، وعليها باب مغلق، ونقر في أرضها أهراء للطعام، ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور، فلما فرغ منها قال: اليوم آمنت على الفاطميات يعني بناته ، وارتحل عنها.
ولما رأى إعجاب الناس بها وبحصانتها قال: هذه بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار، فكان كذلك، لأن أبا يزيد وصل إلى موضع السهم ووقف فيه ساعة وعاد ولم يظفر.
فلما كان في سنة ست وثلاثمائة جهز المهدي جيشا كثيفا مع ابنه أبي القاسم إلى مصر، وهي المرة الثانية، فوصل الاسكندرية في ربيع الآخر، ودخلها القاسم، ثم سار منها، وملك الأشمونين وكثيرا من الصعيد، وكتب إلى أهل مكة يدعوهم إلى طاعته، فلم يقبلوا منه، فبعث المقتدر مؤنسا الخادم في شعبان، فوصل إلى مصر، وكانت بينه وبين القائم عدة وقعات.
ووصل من إفريقية ثمانون مركباً نجدةً للقائم من أبيه، فأرست بالاسكندرية، وعليها سليمان الخادم، ويعقوب الكتامي، وكانا شجاعين. فأمر المقتدر أن تسير مراكب طرسوس، فسار إليهم خمس وعشرون مركبا، فيها النفط والعدد، فالتقت المراكب على رشيد، فظفرت مراكب المقتدر، وأحرقوا كثيرا من مراكب إفريقية، وأهلك أكثر أهلها وأسر منها كثير، فيهم سليمان ويعقوب، فمات سليمان بمصر في الحبس، وحمل يعقوب إلى بغداد، فهرب منها، وعاد إلى إفريقية.
وغلب مؤنس عساكر القائم، ووقع فيهم الغلاء والوباء، فمات كثير منهم، ورجع من بقي إلى إفريقية، وفيهم القائم، وتلقب مؤنس الخادم من حينئذ بالمظفر، لغلبته عساكر المغرب غير مرة.
فلما كانت سنة خمس عشرة وثلاثمائة سير المهدي ابنه أبا القاسم من المهدية إلى المغرب في جيش كثير، في صفر، بسبب خارجي خرج عليه، وقتل خلقا، فوصل إلى ما وراء تاهرت.
وعاد فخط برمحه في الأرض صفة مدينة سماها المحمدية، وكانت خطة لبني كملان، فأخرجهم منها إلى فحص القيروان، كالمتوقع منهم أمراً، فلذلك أحب أن يكونوا قريبا منه، وهم كانوا أصحاب أبي يزيد الخارجي.
وكان المهدي يشبه في خلفاء بني العباس بالسفاح، فإن السفاح خرج من الحميمة بالشام، يطلب الخلافة والسيف يقطر دما، والطلب مراصد، وأبو سلمة الخلال يؤسس له الأمر، ويبث دعوته؛ وعبيد الله خرج من سلمية في الشام، وقد أذكيت العيون عليه، وأبو عبد الله الشيعي ساع في تمهيد دولته، وكلاهما تم له الأمر، وقتل من قام بدعوته.
وانتقل كثير من الناس إلى المحمدية، وأمر عاملها أن يكثر من الطعام، ويخزنه ويحتفظ به، ففعل ذلك، فلم يزل مخزونا حتى خرج أبو يزيد، ولقيه المنصور بن القائم بن المهدي، ومن المحمدية كان يمتار ما يريد إذ ليس بالموضع مدينة سواها.
فلما كان يوم الاثنين الرابع عشر، وقيل وقت صلاة المغرب ليلة الثلاثاء النصف من ربيع الأول، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة توفي أبو محمد عبيد الله المهدي بالمهدية، وأخفى ابنه أبو القاسم موته سنةً لتدبير كان له، فإنه كان يخاف الناس إذا علموا بموت المهدي.
وكان عمر المهدي لما توفى ثلاثا وستين سنة لم تكمل .
وكانت ولايته منذ دخل رقادة ودعى له بالإقامة إلى أن توفي أربعا وعشرين سنة، وعشرة أشهر، وعشرين يوماً.
المصدر: اتعاظ الحنفاء للمقريزى
No comments:
Post a Comment